عن المساء خالص جلبي
هنا أذكر قصة ابن بطوطة ورحلته العجيبة في الأرض. فقد خرج (ابن بطوطة) من طنجة في المغرب العربي في صيف عام 1325 ميلادي بقصد الحج، وعمره آنذاك اثنثان وعشرون (22) سنة لم يدُر في خلَده قط أنه سيغيب عن بيته تسعاً وعشرين (29) عاماً كاملة، ليعود إلى وطنه مبيضَّ الشعر قد نيف على الخمسين!.. بعد أن خاض غمار رحلةً حافلةً بالمغامرات والأخطار والعجائب مما رأى، يجوب الآفاق ويتعرض لهجمات قُطّاع الطرق والجوع والبرد والحمى الرهيبة، دون أي مضاد حيوي أو خافض حرارة، قطع فيها ما يزيد عن مائة وعشرين ألف (120) كيلومتر، على ظهر الجمال والبغال، وأحياناً الكلاب..
في رحلتي الأخيرة إلى المغرب، قلدت ابنَ بطوطة في أرضه، فذهبت شرقا حتى أحفير، بعد وجدة، ثم عرَّجتُ على السعيدية وتابعت رحلة شاطئ المتوسط حتى الناضور.. وهناك كانت محاضرة في انتظاري عند قوم أفاضل، بعدها أردت متابعة الطريق إلى فاس، حتى أتابع إلى الجديدة، ولكنني أحببت المغامرة أكثر، فعرّجتُ من هناك، بجوار الحسيمة، أرض الزلازل.. ثم تابعت من الجبال إلى الساحل، حتى دخلت مدينة الجبهة، حيث تعيش مدينة صغيرة ناعسة ناسية منسية بجوار البحر.. تبرز الجبال من عمق المياه وتعيش في بيوت صغيرة جميلة في غابة فعلية من الأشجار، تعبق منها رائحة الياسمين والشواء، وتتجول فيها «قبائل» كاملة من القطط و«عائلات» جميلة من الكلاب السارحة المارحة، في جنة أرضية فعلا، وهي تمضغ، بشراهة ومتعة، سمك السردين الطازج المصطاد من البحر مباشرة، لا يعكر صفوها أحد، وتنام في الطرقات، آمنة، بدون مواء أو نباح...
تعرفنا فيها على الشرطي الودود عثمان برهوم، الذي دلني على الطريق إلى تطوان، بدون الدخول في لجة «لابيستْ» فقدمت له كتابي في النقد الذاتي هدية، رمزا لعلاقة صحية بين المواطن والسائح والدولة.
ومنها دخلت في منعرجات إلى تطوان، فدخلت أراضي وجبال مذهلة من الجَمال يتناثر فيها الورد البري الأحمر، وعجبت لماذا لم يهتمَّ الناس بتحويلها إلى منتجعات للسياح، وهي جنات ذات بهجة للناظرين.
وحين دخلت تطوان، ذهلت من الجمال، في تعانق الجبال من كل جانب مع البحر، وفي استراحة الشارقة في اتجاه طنجة، حيث قبر أعظم رحّالة عرفته الأرض: ابن بطوطة! ذهلت من جمال وجبال الطبيعة، حتى هممت بشراء أرض هناك والبناء والاستقرار!..
بعدها، تابعنا الطريق إلى القنيطرة والمحمدية والعرائش والرباط والدار البيضاء، ثم المدينة الجديدة وما أدراك ما الجديدة!؟
إنها فعلا جديدة جميلة! لم أصدق ما رأيت، لقد تمنيت أن اجتمع ببعوضة واحدة فلم أرها ولم أُلدَغ؟ هواؤها عليل وشعبها لطيف وغذاؤها طيب المذاق من السمك الذي يشبه العجين، لطراوته وعبق الياسمين في رائحته، والخيرات متوفرات والأذان يصدح جنب الكنيسة والمعبد اليهودي في الحي البرتغالي.. حيث رزنا المسقاة البرتغالية، وهي أعجوبة في الصنع، بنوها بأيد مغربية ليوم الفزع الأكبر والحصار المنكر، فلا يموتون عطشا وهلاكا، حتى طردهم المغاربة منها، بعد طول مكابدة ومشقة وضحايا ودماء.. فأرض الجديدة هي أرض الشهداء، بحق، لو كانوا يعلمون، وما زالت مدافعهم الصدئة تشهد على بنيانهم ومدافعتهم.
إنها (الجديدة) مدينة رائعة، بذراع ممتدة إلى كل الجهات: تطوان وطنجة والرباط، شمالا، فاس ووجدة، شرقا، أكادير وآسفي والصويرة وسميمو والدشيرة الجهادية وآيت ملول، جنوبا، ثم الالتفاف منها إلى جبال «توبقال» ومراكش، وما أدراك ما مراكش الحمراء؟! إنها تحفة فنية فعلا، ومكان للبكاء والصلاة والاعتبار في «أغمات» القريبة منها بكيلومترات، إلى جوار قبر المعتمد بن عباد وحبيبته اعتماد الرميكية...
وفوق ذلك فمدينة الجديدة مربوطة بطريق سريع بثمانين كيلومترا بالدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية، ويحوطها الأطلنطي، مثل عنق حسناء في جيدها حبات لؤلؤ... أفلا تصح أن يقصدها المرء وعلى شاطئها ينام بقية عمره؟ هذا ما أفكر فيه، بعد أن ودعت بلاد البعث إلى يوم البعث..
والشيء بالشيء يُذكَر، وهنا أذكر قصة ابن بطوطة ورحلته العجيبة في الأرض. فقد خرج (ابن بطوطة) من طنجة في المغرب العربي في صيف عام 1325 ميلادي بقصد الحج، وعمره آنذاك اثنثان وعشرون (22) سنة لم يدُر في خلَده قط أنه سيغيب عن بيته تسعاً وعشرين (29) عاماً كاملة، ليعود إلى وطنه مبيضَّ الشعر قد نيف على الخمسين!.. بعد أن خاض غمار رحلةً حافلةً بالمغامرات والأخطار والعجائب مما رأى، يجوب الآفاق ويتعرض لهجمات قُطّاع الطرق والجوع والبرد والحمى الرهيبة، دون أي مضاد حيوي أو خافض حرارة، قطع فيها ما يزيد عن مائة وعشرين ألف (120) كيلومتر، على ظهر الجمال والبغال، وأحياناً الكلاب.. يرى فيها معظم المعمورة المعروفة آنذاك، من المحيط الأطلنطي وحافة الأندلس إلى الصين والمحيط الهادي وجزر المالديف، بشغف لا يعرف الكلل لاكتشاف المجهول، وروح مغامرة بدون حدود لمعرفة الجديد كل يوم، وعطش لا يعرف الري للازدياد المعرفي، والاحتكاك بثقافات متباينة، ولغات عويصة، وعادات مغايرة، وتقاليد لم يعتدْها، كل هذا باعتباره تطبيقاً عملياً لآية السير في الأرض، لمعرفة المزيد من آية الخلق، فعاصَر بزوغَ شمس الإمبراطورية العثمانية وأفولَ نجم بيزنطة وانتشارَ الطاعون، الذي قضى على ثلث سكان أوربا، الذين كانوا «يسبحون» في الجهل، ولا يعرفون القواعد الصحية الأولية ويغلقون الحمامات.. فلم ير جدوى في زيارتها واعتبرها أرضَ ظلمة، فلا شيء يستحق الرؤية هناك فسبحان مغير الأحوال؟..!
السير على خطى ابن بطوطة
كانت قصة ذهابي للاختصاص في العالم الغربي، الذي يعلمنا قواعد الصحة، هذه المرة، طريفة نوعاً ما، ففي أحد الأيام، جاءني شابان ذكيان من زملاء كلية الطب وطلبا الانفراد بي، «لأمرٍ هام»، ثم أسرَّ إلي أحدهم كلاما هاماً، وعيناه تشعان بالإخلاص والجدية، في حين كان صاحبه يؤمِّن على كل كلمة يقولها: «لقد سمعنا أنك تريد الذهاب للاختصاص الطبي وستعيش لفترة ليست بالقصيرة في بيئة كفر مغايرة، فنحن نخشى عليك وننصحك، حرصاً عليك من ألا تضرب في الأرض وتحافظ على نفسك بيننا»؟!
وقبلها بفترة، جاءني أخ بنفس المهمة ينهاني عن أن أذهب إلى بلاد الكفر و«ينصحني» بالبقاء في بلاد المسلمين، حيث يضرب الطاعون البعثي ويقص الرقاب والحريات، كما كان الحال منذ أيام كافور الإخشيدي!؟
ومن عجائب الصدف أنه ذكر لي أخاً له في ألمانيا يختص في طب الأسنان، فطلبت منه العنوان، فكان السبب في خروجي إلى أرض! «الجرمان»، في حين جاء ليشجعني على عدم السير في الأرض، وهكذا تتبعت خطى ابن بطوطة لاكتشاف العالم الجديد والتزود من العلم، الذي نمنا عنه فترة طويلة من الزمن، ولتطبيق الآية القرآنية: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة»..
رحلة غيرُ مخطَّط لها..
من الملفت للنظر في رحلة ابن بطوطة أنها كانت رحلة غيرَ مخطَّط لها، فهو في الأصل أراد التوجه إلى الحج، ولكن الذي حدث أنه استمر يدور ويدور، بدون تعب، ويتزود من مدينة إلى أخرى، مستفيداً من أخلاقيات الضيافة الإسلامية وانعدام الحدود السياسية وتأشيرات دخول وخروج عشرات الدول والممالك، فتعرَّف على المزيد وانفتحت شهيته لمعرفة الأكثر من عادات الناس وكيفية عيشهم، في ظل حضارة إسلامية مترامية الأطراف ولغة عربية (عالمية) سائدة يتفاهم بها الناس حيث ذهب (مثل الإنجليزية اليوم)، ودين محترم عند أعداء ينظرون إليه كعنصر تفوق يطل عليهم عن الأعلى، وشهادة (قاض) معترَف بها في العالم، يستطيع أن يمارس بها مهنته في كل الظروف، كما هو الحال بالنسبة إلى شهادة حقوقية أو قانونية من جامعة هارفارد!؟ وبذلك استخدمه العديد من الأمراء والسلاطين، بفضل هذه (الإجازة العالمية) المعترَف بها، فضلاً عن حنكة (دبلوماسية) بارعة تمتع بها وازدادت صقلاً مع التنقل والاحتكاك بالثقافات الأخرى، فكان بذلك «أنثروبولوجياً» من الطراز الأول، والمبشر بالدولة العالمية الواحدة وبالإنسان عالمي الثقافة..
يقول ابن بطوطة في كتابه الذي أعطاه اسم «تحفة النُّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، والذي أملاه على محمد بن الجزي الكلبي، بعد أن تقدم المذكور بوضع مقدمة للكتاب أفاض فيها من طوفان التبجيلات ما لا يستحق الوقوف لقراءته، وتعطي فكرة عن روح العصر وبداية الاختناق الحضاري، بسبب حشو الكتاب بالتنميقات البلاغية المملة، ما يلي:
«كان خروجي من طنجة، مسقط رأسي، في يوم الخميس الثاني من شهر رجب الفرد، عام خمسة وعشرين وسبعمائة (725) هجري، معتمدا حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، منفردا عن آنس بصحبته وركب أكون في جملته لباعث على النفس شديد العزائم وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم (جمع حيزوم، وهو وسط الصدر) فجزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبا ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة». بقي علينا أن نعلم أنه احتاج إلى عشرة أشهر حتى وصل مصر، تزوج خلالها مرتين، وبقي يخب على ظهر الجمال سنة ونصف، حتى اكتحلت عيناه برؤية الكعبة المشرفة، اجتاز خلالها الشمال الإفريقي برمته مسح فيها عشرات المدن والدساكر، وعاين أمورا عجيبة من أخلاق الناس وأشكالهم، بين عمامة القاضي في الإسكندرية، التي بلغت حجم نصف المحراب، ومعاصر السكر في مدينة المنلوي المصرية، والآثار الفرعونية في «أخميم»، التي قال عنها: «وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان عجيبة الشأن بها البربا، المعروف باسمه، وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابات الأوائل لا تفهم في هذا العهد». ويصف الأهرام، وبالطبع لم يكن يتصور فك أسرار اللغة الهيروغليفية ولا هندسة البناء: «والأهرام بناء بالحجر الصلد المنحوت متناهي السمو مستدير متسع الأسفل ضيق الأعلى، كالشكل المخروط ولا أبواب لها ولا تعلم كيفية بنائها».
العالم يعيش كارثة
الطاعون بما فيها الشرق الأوسط
مما رآه ابن بطوطة، في ذلك الوقت، الطاعون، الذي بدأ رحلته من جزيرة القرم ليفتك بأوربا، من خلال جرذان السفن التي تحمل البراغيث في جلدها والتي تنقل المرض القاتل، وبسبب تفشي القذارة المخيفة في أوربا فهو لم يطلع تماماً على حجم المأساة التي مسحت ثلث سكان أوربا، من خريطة الوجود، ولذا ارتبط الطاعون بالرعب المزلزل في التاريخ، والمنظر الذي رآه في دمشق كان مخففاً «فكان يموت يوميا ألْفان من الناس!»، في حين بلغت الوفيات في مصر أربعا وعشرين ألفا في يوم واحد!؟
وهكذا كانت تفعل الأمراض في ذلك الوقت، فلا يعرف الناس كيف جاءت ولا كيف ذهبت، وكان الواحد يأتي وهو يقبل الآخر ويبكي عليه في الوقت الذي ينقل إليه المرض؟! أما في لندن، فقد مسح ثلث المدينة بالطاعون.
كيف مضى في رحلته العجيبة؟..
أخذت رحلته طابع الموجات، ففي السنتين الأوليين، بين عامي 1325 و1327 م، توجه من المغرب إلى مكة المكرمة، بعد أن مسح الشمال الإفريقي ونزل إلى صعيد مصر، ليتوجه منها إلى الحجاز، عن طريق البحر الأحمر، إلا أنه حيل بينه وبين ذلك الهدف، بسبب حرب ناشبة بين المماليك وأهل المنطقة، فرجع إلى القاهرة وتابع طريقه في اتجاه سوريا ولبنان وبلاد الشام، ووصف عشرات المدن في رحلته هذه، فالقاهرة تغلي بالسكان وكأنهم موج البحر، وعدد السقائين على الجمال اثنا عشر ألفا (12000)، ومراكب السلطان (الناصر) في النيل ست وثلاثون ألفا، وبجانب المنلوي مدينة منية ابن خصيب بسبب قصة عجيبة وحماة عليها النواعير، كالأفلاك الدائرات، وفيها المشمش اللوزي «الذي إذا كسرت نواته خرجت منها لوزة حلوة، وحلب ذات القدر الخطير وخطابها من الملوك كثير»...
وأما دمشق فقد سئمت أرضَها كثرة الماء، حتى اشتاقت إلى الظمأ «فتكاد تناديك اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب وقد أحدقت بها البساتين إحداق الهالة بالقمر والأكمام بالثمر وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر وكل موضع لحظت بجهاتها الأربعة نضرته اليانعة قيد البصر، ولله صدق القائلين، إنْ كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها»..
ولكن أين عيون ابن بطوطة ليرى ما رأيت أنا من التدمير المنظَّم لهذه المدينة التاريخية العظيمة، بعد ابتلائها بالطاعون العبثي وما صرخ هيثم المالح المعتقل بهلاك الغوطة؟!..
ثم يمضي في ذكر صفات عشرات المدن التي مر بها وصفات أهلها، فصنعاء بها الطرق المبلطة، فإذا نزل الماء استحمت الشوارع وتنقَّتْ، ومدينة زبيد أملح بلاد اليمن وأجملها، ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور ولنسائها الحسن الفائق.
أين عيناه ليرى القات والشتات والحرب الأهلية وقباحة الشوارع؟!
وأما أهل مكة فوصفهم بأنهم لا يأكلون إلا مرة واحدة في اليوم، بعد العصر، ولذلك «صحت أبدانهم وقلت فيهم العاهات!».. أين عيناه، ليرى الكبسات والبدانة ووباء السكري؟! وشيراز تشبه دمشق إلى حد بعيد، سوى أن انهارها خمسة وليس سبعة، وأهلها حسان الصور، نظاف الملابس.
وأما مدينة زيلع، في شرق إفريقيا، فقد هرب منها، من نتن الرائحة، ففضل شط البحر على حرارتها القاتلة، «فهي أقذر مدينة في المعمورة وأوحشها وأكثرها نتنا».. ومر بمقاديشو فرأى «الواحد من أهل مقاديشو يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة!».. ومر ببغداد فوصفها بما يُحزن، لأنها لم تُبعَث إلى الحياة بعد مذبحة التتار، «فقد ذهب رسمها ولم يبق إلا اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها، كالطلل الدارس أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر إلا دجلتها».. وهذا متوقع، لأن الخلافة العباسية، بعد تدميرها، قامت في مكانها دولة مغولية امتدت حوالي القرن هي الدولة «الإليخانية» مؤسسها هو هولاكو، مدمر بغداد، الذي لم يعمر كثيرا، بعد اغتصاب «لؤلؤة الشرق»، فمات بتشمع الكبد، من معاقرة الخمرة!..
توزع الجيوبوليتيك (الجغرافيا السياسية) في عصر ابن بطوطة..
كانت القوة السياسية في مصر وسوريا بيد «المماليك البرجية»، التي جاءت بعد المماليك البحرية: «حكم فيها ستة قتل منهم اثنان وخلع ثلاثة!».. وامتدت من حكم قلاوون الألفي من عام 1279 ميلادي وانتهت بعد 21 حاكما، بحكم المماليك الشراكسة عام 1382 «الذي انتهى بدوره، بعد حوالي 130 سنة، بمقتل قنصوه الغوري في معركة مرج دابق أمام العثمانيين عام 1516 م»، أي أن قرنا واحدا من حكم مصر (المماليك البرجية) شهد انقلاباً كل خمس سنوات، قتل منهم خمسة وخلع منهم 11 وعاصر هذه الفترةَ التي لا تحسد عليها مصر ابن بطوطة، فعاصر الملك الناصر، الذي خُلِع مرتين. في حين أنه فوجئ بروح جديدة في الأناضول بنظام «الأخوة»، الذين كانوا يتنافسون على ضيافتهم، وبذلك ارتاح دفعة واحدة عند الأتراك، فما كان أمامه سوى أن يتوجه من مدينة إلى أخرى، في ضيافة أولئك الإخوان الجدد، الذين سيرفعون علم الدولة العثمانية فوق أوربا لمدة خمسة قرون، وفي بورصة اجتمع بالسلطان العثماني أورخان، الذي نجح استراتيجيا في اختراق الضفة الأوربية، للمرة الأولى، وذلك عند مضيق الدردنيل، وقناة الدردنيل هي التي عبرها الملك الفارسي كزركسيس في القرن الخامس قبل الميلاد، لاجتياح بلاد اليونان وهُزم فيها ونجت أثينا من نير العبودية، فأنتجت سقراط وأفلاطون وأرسطو.. هذه القناة هي التي تصل بين البحر المتوسط وبحر مرمرة، الذي ينفتح ليضيق مرة أخرى، فيتصل بالبحر الأسود، فبنا أورخان مركزه في أوربا (أدرنا)، استعدادا لاجتياح القسطنطينية في ما بعد، ولكن المؤشرات التي رآها ابن بطوطة لم تكن توحي بأن الدولة العثمانية سوف تصبح شجرة عظيمة تصمد خمس قرون...
ومن هناك، تابع طريقه إلى المناطق الباردة، وكانت رحلته في إفريقيا الشرقية بين عامي 1327 و1330 م وصل فيها إلى مومباسا وتنزانيا الحالية.
وبين عامي 1330 و1333 م، اخترق الأناضول وآسيا إلى الهند في دهلي، حيث استقر فيها يمارس القضاء حتى عام 1341 م حينما كلفه الملك الهندي بمهمة إلى ملك الصين «بدأت بكارثة، حيث غرق كل شيء».. وكما وصف ابن بطوطة الحر في رحلاته والحمى التي كان يضطر فيها أحيانا إلى ربط نفسه على ظهر الجمل كي لا يسقط، فإنه وصف البرد عندما دخل منطقة «الفولغا»: «وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن وفي رجلي خف من صوف وفوقه خف مبطن بثوب كتان وفوقه خف من البرغالي، وهو جلد الفرس مبطن بجلد ذئب وكنت أتوضأ بالماء الحار بمقربة من النار فما تقطر من الماء قطرة إلا جمدت لحينها، وإذا غسلت وجهي، يصل الماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منه شبه الثلج والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب وكنت لا أستطيع الركوب، لكثرة ما علي من الثياب، حتى يركبني أصحابي»..
ويبقى أمامنا السؤال: كيف لم ينتبه ابن بطوطة إلى أوربا لزيارتها والتعرف على معالمها السياحية آنذاك؟ ولكن استعراض الوضع الحضاري لأوربا في ذلك الوقت يجعلنا نشارك ابن بطوطة في أن لا شيء يرى ويزار في بلاد الظلام هذه!
«وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة والدخول إليها من بلغار، وبينهما أربعون يوما، ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى». ولا غرابة، فأوربا كانت تخوض آنذاك حرب المائة عام من جهة، والانقسام الديني على أشده، والنزاعات المذهبية تطحن، وفوقها الخرافة والطاعون يحصدان العقول والأبدان. وينقل لنا التاريخ هرب الفيلسوف البريطاني ويليام فون أوكام إلى ألمانيا عندما اتهم بالزندقة والإلحاد، بسبب نشره كتابا بعنوان الحياة الجديدة (Vita Moderna) .
أهمية السياحة والسير في الأرض
من الطريف في رحلة ابن بطوطة هذا الاسترخاء الروحي والبحث الممتع والسؤال عن كل شيء، فهو عندما قابل والد إمبراطور القسطنطينية، التي كانت تمثل الكنيسة الشرقية، طلب منه دخول الكنيسة لرؤيتها فلم يسمح له، وهو يدور المغارات، بحثا عن الصالحين، وهو يسأل عن كل شيء فيتعرف على «الكليجا» و»قمر الدين»، المصنوع من المشمش، والذين يرقصون في النار، وداء الفيلة عند الأفارقة، وحرق الزوجة مع زوجها المتوفى، وهي على قيد الحياة في الهند، ولماذا سميت هذه المدينة «منية الخصيب»، وما معنى كلمة «جلبي» باللغة الرومية وما قصة الفيلسوف المسلم جلال الدين الرومي وكتابه «المثنوي»، وبطيخ خوارزم، الذي ليس له مثيل في العالم، واستعمال الورق كعملة (نقود) في الصين، بدلا من المعدن (الكاغد) والفحم الحجري والسجاد الصيني الفاخر وهكذا.. فهذه الروح المحبة للسياحة والتي زكاها القرآن للرجال والنساء على حد سواء (الحامدون السائحون) (عابدات سائحات)، طبقها ابن بطوطة فكان يسافر ويتزوج حيثما يمضي بدون أي حرج، وحينما تزوج في جزر المالديف وصفهن بأنهن من خير الزوجات اللواتي اجتمع بهن في حياته، وكانت زوجاته يمضين معه سائحات في رحلة اكتشاف المعمورة، حتى مع ظروف الحمل وموت بعض بناته، أحيانا، في هذه الرحلة العجيبة التي لم يسبقه إليها أحد، بمن فيهم ماركو باولو، الذي اعتبرته أوربا، حتى فترة قريبة، أعظمَ من ذرع الأرض وجاب القفار.. ولكن الأبحاث الحديثة بدأت تعترف بهذا السبق الهام للمسلمين.
إن آية «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» انطلاق عملاق في التفكير، فنوعية السير هنا في الأرض، حيث تتحول الواقعات شواهد على صدق (الكتاب): «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق»، ولكن مع هذا نلاحظ أن الكساح الذي أصاب العالم الإسلامي شيء رهيب، وأن معظم الذين ساروا في الأرض هم من خارج جغرافيا العالم الإسلامي، ولم يعد العالم الإسلامي ينتج ابن بطوطة جديدا، والسير في الأرض هو أمر (order) وليس نفلاً، فهذه مأساة لنا، فنحن نزهد في الجديد ونرتعب من العلم ولا نحرص على اكتشاف المجهول، وانطفأت عندنا روح المغامرة..
كما أن السير هو لــ«النظر»، الذي يحمل الوعي الحضاري وشهود العالم والعظة والاستفادة من تجارب الأمم ومراجعة النفس والتراكم المعرفي، وليس لــ«شم الهواء» والتفكُّه الفارغ على ضفاف البحيرات وتفريغ الاحتقان الجنسي.. ويؤكد النظر هنا على تأمل ظاهرة (الخَلق) وبالتحديد (بدء الخلق) والخلق كلمة عامة، فالخلق المادي خلق والعضوي خلق والفكري خلق وكذلك النفسي والاجتماعي، فهي قفزة رائعة ماسحة شاملة لمعنى الخلق، وهي طريقة مميزة للقرآن في التعبير، كون مصدره (المطلق) «هو الأول والآخر والظاهر والباطن»، فتنخلع الألفاظ من إحداثياتها الزمانية المكانية الشخصانية، لتدخل معمل المطلق، وهكذا يمكن دراسة الكون من الذرة إلى المجرة، والتشوهات العضوية الجنينية في أي مستوى عضوي، ودراسة الأمراض النفسية ومعرفة عللها، والأفكار وانتشارها، والدعوات وبداياتها، والأديان وانسياحها في العالم، والنظم السياسية وقيامها ثم انقراضها، والدول وانبعاثها وزوالها، والحضارات وولادتها واندثارها.. فكلها من خلق الله في هذا الوجود، فطالما كان كل ما عدا الله مخلوقا، فكل ماعدا الله خاضع لهذه القاعدة من إعادة النظر والدرس والبحث ومعرفة البداءات الأولية فيه.
قصة الفقيه ذو اللوثة
حتى نفهم العقم الحضاري وجذوره الخبيثة، فإن قصة مثيرة جاءت في الوقائع التي عاصرها ابن بطوطة بالذات، وكان شاهداً شخصيا فيها، تلقي الضوء على «الميكانيزم» التاريخي الذي بدأ ينخر في كيان الحضارة الإسلامية، عن فقيه مصاب بلوثة عقلية قام يعظ الناس، كالمجنون، فقام الناس عليه ونشبت «حفلة ملاكمة» بالأيدي والأحذية من طرف واحد، حتى طارت عمامة الفقيه (المجنون) فسلموه بعدها للقاضي، الذي قام بحبسه وتعزيره: «وكنت إذذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم.. فعارضه فقيه مالكي يُعرَف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالنعال ضربا كثيرا حتى سقطت عمامته.. واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم، قاضي الحنابلة فأمر بسجنه وعزره».
بقي أن نعرف سبب «حفلة» الضرب هذه، ما خلفها؟
ينقل لنا ابن بطوطة أن الفقيه كان يقول بـ«مور منكرة، منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة».. وبقي أن نعرف من كان هذا الفقيه (ذو اللوثة)؟ كان... «ابن تيمية»... الذي يعتبر اليوم مالك بن نبي مؤلفاته «الترسانة الفكرية التي ما تزال تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية حتى اليوم»!.. الذي مات بعدها بفترة خلف قضبان السجن، حزينا مكسور القلب في سجن «القلعة» في دمشق، ودفن في مكان مستشفى الولادة حالياً، المقابل لجامعة دمشق، وبجانبه تلميذه الوفي، صاحب المؤلفات الغزيرة، ابن قيم الجوزية.
عن المساء خالص جلبي