جهاز رائع لكشف الكذب اسمه: رمضان

عبد الله الدامون - damounus@yahoo.com

قبل بضعة عقود فقط، لم يكن الكثيرون يتصورون أن الدوائر ستدور برمضان ليصبح شهرا خاصا بالأكل والاعتكاف أمام شاشات التلفزيون.
هذا التغير الدرامي لشهر رمضان هو ما جعل الكثيرين يصفونه بكونه شهر الدراما، وربما يقصدون بذلك المسلسلات الدرامية والأفلام التلفزيونية التي تعرضها عشرات القنوات الفضائية العربية من شروق الشمس إلى مطلع الفجر.
لكن رغم هذا التغير الكبير في دور رمضان، فإنه سيظل يؤدي دورا أساسيا، ليس في المجتمع المغربي فقط، بل في كل المجتمعات العربية المريضة من المحيط إلى الخليج، لأنه تحول إلى ما يشبه الطبيب النفسي. وعندما تتعذر عليه ممارسة هذا الدور، فإنه يتحول إلى جهاز رائع لكشف الكذب. هكذا سيظل رمضان يلعب دورا كبيرا في كشف أمراض المجتمع، حيث يمكن للمغاربة أن يعتمدوا عليه بنسبة مليون في المائة لكشف اعتلالاتهم النفسية والشخصية والاجتماعية.
وفي أول أيام رمضان، عاينت معركة حقيقية نشبت بين شخصين في أحد الأسواق قبل أذان المغرب بحوالي ساعتين، حيث أفرغ كل واحد منهما كل ما في جعبته من سباب وشتائم وألفاظ نابية، وبعد ذلك جلس كل منهما في طرف قصي من الشارع، أحدهما كان يبكي والآخر كان شبه مغمى عليه وهو يتنفس بعمق. أكيد أنهما أحسا براحة غير مسبوقة بعد أن أخرجا مكبوتاتهما كلها ثم جلسا يرتاحان.
وفي مساجد كثيرة، يأتي مصلون، عادة ما يظهرون خلال رمضان فقط، ويؤدون صلاة العشاء والتراويح وهم أكثر الناس خشوعا، أو هكذا يبدو. وعندما تنتهي الصلاة يتوجهون نحو سياراتهم ويقصدون أول شارع تقف فيه فتيات الرصيف، وأحيانا تكون تلك الأرصفة قريبة جدا من المساجد، لأن المومسات يعرفن بتجربتهن وغريزتهن أن جرعة النفاق ترتفع أكثر في رمضان، فيقررن الاقتراب من الشوارع المحاذية للمساجد. أحيانا يتوجه مصلون مباشرة من المسجد إلى الملهى الذي يسكرون فيه باقي أيام السنة، ويدخلونه بنفس الجلباب الأبيض الذي أدوا به الصلاة، لكنهم هذه المرة لا يسكرون، بل فقط يتتبعون سهرات الشيخات والأغاني الشعبية التي تمزج بين كلمات «الصلاة على النبي» وإيقاع هز الأرداف... حتى يتبين الخيط من الخيط.
رمضان جهاز رائع للكشف عن نزعتنا المستفحلة نحو الغش والنصب. النساء القرويات يخلطن البيض الفاسد بالبيض الجيد، وأخريات يضعن البيض العادي في «جافيل» ليتحول لونه إلى الأبيض ويتم بيعه بسعر البيض البلدي، وباعة كثيرون يستعملون الدقيق الفاسد لعجن الخبز والأرغفة، وتتحول الكثير من محلات الجزارة إلى محلات لبيع لحوم فاسدة أو دجاج نافق، ويتم خلط الحليب واللبن والعصير بكثير من الماء، لأن الناس يشترون كثيرا ولا يدققون في ما يشترونه، لأن المعدة عمياء.
في رمضان يكتشف المغاربة أن تلك العبارات الرومانسية التي نسمي بها أنفسنا، مثل «مجتمع متضامن» أو «مجتمع متسامح»، مجرد أوهام وأساطير، لأن من يمر من شارع واحد من شوارع المدن المغربية قبل أذان المغرب ببضع ساعات سيكتشف هول النفاق الذي نمارسه مع أنفسنا، لأن كل سائق سيارة يشتم الآخر، وكل واحد يطبق نظرية «أنا الأول.. ومن بعدي الطوفان».
الشجارات التي تنشب بين الناس في رمضان تدفع إلى الاعتقاد بأن هناك 30 مليون خلية نائمة في المغرب، أي أن كل مغربي يشكل عدوا مفترضا لمغربي آخر، وأن الانفجار مسألة وقت فقط.
ننافق أنفسنا طوال 11 شهرا، ثم يأتي رمضان ليكشف عن عيوبنا الكثيرة ثم يرحل تاركا إيانا وجها لوجه مع ضمائرنا، فروعة رمضان الحقيقية تكمن في كونه يتحول إلى جهاز رائع لكشف الكذب والنفاق في المجتمعات، حتى عندما يتراجع دوره الروحي والديني.
شكرا لك يا رمضان لأنك الوحيد الذي تمتلك كل هذه الجرأة والشجاعة والنبل لكي تكشف عن أمراضنا ومكبوتاتنا وأكاذيبنا، ونحن ممتنون لك كثيرا ونتمنى أن تستمر في أداء هذا الدور البطولي مع مجتمع يمارس دور البطولة في النفاق.

* صباح الخير